رافت احمد الخمساوي
<p align="center"><span lang="ar-ae"><font face="A
- إنضم
- 5 أكتوبر 2006
- المشاركات
- 4,645
- مستوى التفاعل
- 0
- النقاط
- 36
- العمر
- 57
بين القربة والجركن
كان السقَّاؤون قديمًا ينقلون المياه فيما عُرف بالقِرَب، والقربة كانت عبارة عن وعاء مصنوع من جلد الثور يسع أربع قرب، وهي سعة جلد ماعز من الماء، واستلزم كثرة استخدامها واعتماد السقَّائين عليها في نقل المياه من النهر أن أُنشئت لها مصانع تُصنع وتُدبغ فيها وكانت هناك سويقة لتباع بها تقع بالقرب من باب زويلة؛ حيث كان يكثر وجود السقائين آنذاك، وكان هذا السوق يفتح كل أيام الأسبوع حتى الظهر لخدمة طوائف السقائين، كما كان يوجد شارع أطلق عليه شارع القريبة متفرع من شارع القصبة العظمى (شارع المعز لدين الله حاليًّا) تجاه جامع الصالح طلائع بمنطقة تحت الربع، وهذا الشارع عُرف بهذا الاسم نسبةً إلى صناعة وتجارة القرب الجلدية به، وكان خطها يعرف بخط القربيين.
أما الآن فالجراكن هي البديل عن القرب، كما أصبحت من ضروريات البيت المصري، ليس في القرى وحدها ولكن في أكبر المدن المصرية، بل في العاصمة ذاتها؛ حيث يقوم السكان بتخزين المياه فيها وقت وجودها إذا وجدت أصلاً، وهناك من يتاجر فيها ويبيعها دون رقابة حتى وصل سعر جركن الماء لثلاثة جنيهات!!
أما قديمًا فكان الوضع أيسر حالاً؛ حيث كان ثمن قربة الماء له ضوابط تخضع للمسافة التي يقطعها السقَّاء بين النيل والمكان المراد نقل الماء إليه، وهذا الثمن يتراوح ما بين ربع ونصف درهم، وأحيانًا يرتفع في بعض الفترات خاصةً التي يتعذَّر فيها الحصول على الماء من أماكن قريبة، وكان يتم نقلها وهي محملة بالمياه على ظهور الجمال أو الحمير، وأحيانًا يحملونها فوق ظهورهم، خاصةً إذا كانت المسافة قصيرةً.
وهناك من الشروط التي حدَّدتها كتب الحسبة ما هو خاصٌّ بالمياه داخل القرب، فكان على السقَّاء أن يُطهِّرَها وألا يترك القربة ناقصةً؛ ففي ذلك غش، كما يتعيَّن عليه أن تكون القربة سالمة من الخرق لأن الماء ينقص بسبب ذلك، ولا سيما إن كان الطريق من الموضع الذي يسكب فيه الماء بعيدًا والخرقُ متسِعًا؛ فإن في ذلك أذيةً للمسلمين في طرقاتهم لنداوتها، كما كان يشترط عليه المحتسب أن تكون القربة من الجلود المدبوغة بالقرط اليماني ومصبوغة بالعصف، فقد ثبت أن ذلك يزيد من متانة الجلد، ونهاه المحتسب عن استخدام جلد البغل أو أيّ جلد قذر متآكل، وعليه ألا يستخدم قربةً جديدةً حتى لا يتغيَّر طعم ولون ورائحة الماء من أثر الدباغة، وإنْ استخدمها فلا ينقل فيها الماء إلى البيوت، بل عليه بيع الماء منها للطواحين وعصارات النبيذ ومضارب الآجر.
وينبغي أن يكون للقربة غطاء ظاهر كثيف ساتر لجميعها؛ ليسلم الناس من تلوث ثيابهم، ويذكر المقريزي أن السقائين كانوا يؤمرون بتغطيتها بالأكسية، ولهم عيار، وهو أربعة وعشرون دلوًا، كل دلو أربعون رطلاً، وعليه أن يربط فَمُ القربة ربطًا جيدًا فلا يربطها ربطًا خفيفًا فيقطر منها ماء كثير من الجانبين.وبلغ عدد الجِمَال المستخدمة لنقل قرب المياه بالقاهرة في العصر الفاطمي، حسبما ذكر ناصر خسرو، اثنين وخمسين ألف جمل، وهؤلاء عدا من يحمل الماء على ظهره في الجرار النحاسية أو القرب، وقدَّر ابن بطوطة عدد السقائين المستخدمين للجمال في حَمل قربهم بـ12 ألف سقَّاء، أما مَن يستخدم الحمير منهم فبلغ بها 30 ألفًا، أما البلوي- المؤرخ المغربي- فقدَّرهم في القاهرة في القرن 8هـ- 14م بمائتي ألف جمل، وعَدَّ السقائين الذين سجَّلوا أسماءهم عند المحتسب وقاموا بدفع ضريبة معينة للحكومة مقابل السماح لهم بالمتاجرة في ماء النيل فقد بلغ عددهم خمسة آلاف.
وقدر فريسكو عدد الجمال وغيرها من الحيوانات التي استُخدمت لتوزيع الماء في أرجاء القاهرة بـ130 ألف دابة، وفي بداية القرن 16م لاحظ تريفيزانو أن 15 ألف جمل كانت تمضي إلى النيل مرتين يوميًّا لتحمل الماء اللازم لحاجات المدينة، وتوضح هذه الأعداد والأرقام مدى كمية المياه التي كانت تُستهلك في القاهرة.